من انتزع حب الوحدة من القلوب؟!
الحقائق تبدأ أفكاراً وأحلاماً، كما أن المصائب الكبيرة تبدأ صغيرة ثم ما تلبث أن تكبر وتتسع (ومعظم النار من مستصغر الشرر)، ولعل ما تمر به وحدتنا اليمنية من تحديات اليوم ما كان له أن يحدث لولا الإهمال والتجاهل للأخطاء التي تراكمت، وسد الآذان عن سماع النصح والتنبيه والتحذير الذي قاله عقلاء وحكماء قوبلوا بالتجاهل التام. كانت النذر مبكرة بأن سوء استخدام السلطة يضرب الوحدة الوطنية في الصميم، وكنت واحداً من كثيرين كتبوا عن ذلك، ولاسيما حين شرع النظام بالتخلص من عشرات الآلاف من الموظفين (مدنيين وعسكريين) ممن لا ولم ينتسب إلى الحزب الحاكم، وتسريح هذا الجيش من الموظفين كان أحد أبواب هذه الغضبة عند هؤلاء وأبنائهم وأقربائهم وأصدقائهم، إضافة إلى الشَّرَه والطمع في البسط على أراضي الدولة، والتمييز في التعامل مع المواطنين، وأشرت إلى ذلك في عدة مقالات أحدها في 21/5/1998م قلت فيه: "... وبعد مرور ثمان سنوات على إعلان الوحدة يجدر بنا أن نواصل العمل من أجل المحافظة عليها، وعلينا أن نحذر من الإساءة إلى الوحدة بالتصرفات الحمقاء التي تتمثل في إثارة النعرات العصبية، أو استغلال السلطة وسوء ممارستها للكسب الشخصي أو الحزبي". إن الموظف المرتشي أو سيء الخلق، وذلك الذي ينهب الأموال العامة، أو أولئك الذين يسطون على أراضي الدولة، أو من يستخدم الوظيفة العامة للأغراض الحزبية، هؤلاء جميعاً يسيئون إلى الوحدة ويشوهون منظرها الجميل، ويحمّلونها مالا تحمل، مثلهم مثل الذين يدعون إلى الفرقة ويحلمون بالانفصال، ولاشك أن الوحدة من الفريقين براء (الصحوة – العدد626). وبدلاً من النظرة البعيدة للمآلات ظل الهدف المحصور في السيطرة على مجريات الحياة العامة، ومصادرة أية انتخابات هو الذي يتقدم على غيره، وزاد الطين بلّة تلك الفكرة الجهنمية القاتلة التي وسعت دائرة الإقصاء بما سمي بالتشبيب وإحلال الجديد بدلاً عن القديم، والصغير بدلاً عن الكبير، وتقديم الأدنى تأهيلاً على صاحب المؤهل الأعلى فتم تقنين ذلك في قانون سمي (قانون صندوق الخدمة المدنية) وهو بئر عميق قذف إليه الكفاءات غير المرغوب في انتمائها السياسي بما فيهم من لم يمض على خدمته عشر سنوات، وتبع ذلك إلقاء شرطة المؤهل والخبرة في التعيين، ويربط الراتب بالمواقع الوظيفي بغض النظر عن كفاءة ومؤهل وخبرة من يشغله في قانون الأجور والمرتبات وكل الأصوات التي ارتفعت في مجلس النواب وخارجة محذرة من مغبة السير في هذا الطريق المعوج لم يسمح لها أبداً، ولا زلت أعتقد أن كسر هذا الصندوق وإخراج ما فيه من لآلئ وأحجار كريمة وإعادتها إلى كادر الدولة يعتبر واحداً من الحلول التي تساعد على تهدئة السخط العارم الذي بدأ بالمحافظات الجنوبية ولن ينتهي على كل الأرض اليمنية، حتى تجبر القلوب التي كسرت ويعود الاطمئنان إلى النفوس. التداعيات تفصح أنه يُخشى أن نعود إلى أسوأ ما كنا عليه قبل 22 من مايو سنة 1990م، لأن الكراهية البغضاء قد حلت محل المحبة والمودة، والتعصب بدلاً من التسامح، وسرى هذا عند الأفراد ولم يعد محصوراً في الحكام والساسة. لقد نشأ جيل الوحدة وهو الذي لم يعش معاناة التشطير والفرقة، لكنه عاش معاناة أخرى، ولم يتم ترسيخ الشعور الوحدوي في ذاكرته من خلال الفعل، بل إنه فقد الأمل والمساواة والحلم بمستقبل زاهر، وقد فشلت الطرق المسفلتة وإقناعه بالقبول بالظلم والاستبداد والفساد الذي يراه بأم عينيه، ولم تعد وسائل الإعلام الرسمية قادرة على تجهيله في ظل ثورة الاتصالات التي جعلته يدرك ما يدور في العالم من حوله. ثقافة القبول بالآخر والتعايش مع، والتعامل الراقي مع التعددية مفقود في المدرسة، في الجامعة، في الدائرة الحكومية، في الإعلام الرسمي، كلما يراه ويسمعه تمجيد للسلطة والحزب الحاكم الذي لم يستوعب بعد أنه سبب كل هذه التداعيات، ولم يعترف أنه قد فشل في الحفاظ على الوحدة الوجدانية بين اليمنيين، لقد كسب مواقف الانتخابات والسيطرة على إيقاع الحياة رسمياً، لكنه خسر القلوب، وجعلها تغني للتشرذم والفرقة، ولم يعد بالإمكان إطعام المظلومين كلاماً، ولا سقيهم شعارات، يجب العمل وبجدية حتى يعود الأمل وتصدقه الفعال بأن اليمنيين شعب واحد له كل الحقوق.
|