فيصل علوي .. والحجة فطوم

[العين الساهرة]

زرت اليوم الحجة فطوم في بيتها ورأيت الصمت العميق يلف منزلها في حافتي العريقة – حافة القاضي كريتر عدن ، فقلت لها ما سبب حزنك قالت في نبرة باكية يا محمد مات بلبل الوادي .. مات فيصل علوي فنان الشعب .. شعب الجنوب العربي ، وأني " موليه " على أبننا فيصل ‘ قلت لها جزاك الله خير ، وقد لا يعرف البعض معنى كلمة "موليه" هذه الكلمة العظيمة التاريخية التي أختف من القاموس العدني ، وحتى هذه العادة المباركة أختفت من حياتنا ولم يعد أحد يمارسها أو يسمع عنها ، كانت النساء في عدن " يولوا" على الميت وكان أهل الميت من النساء يلبسوا الثياب السوداء ويتوقفوا عن سماع الموسيقى والأغاني حزنا على الميت ويقرؤوا القرآن ومداومة الدعاء للميت ، وتمكث هذا الفترة من 3 أشهر حتى سنه كاملة أو أكثر ، والعظيم في الأمر حتى الجيران من النساء في الحارة يتعاطفوا مع أهل الميت "ويولوا" إظهارآ للحزن على الميت والتعاطف مع أهل الميت ، في بلادنا العظيمة التاريخية كان الإنسان حيآ أو ميتآ له إحترام ورحمة ، واليوم بسبب الغزو الهمجي اليمني تفرق البشر والهجرات القسرية والنفي للناس أختفت كثير من هذه العادات العدنية النبيلة ، وقد شعرت بالسعادة حين سمعت هذه الكلمة العدنية "موليه" من الحجة فطوم .. هذه السيدة العدنية التي تشارك في أحداث بلادها وتؤكد دور المرأة الجنوبية العربية في حركة الإصلاح في المجتمع و النضال الوطني .

لعبت المرأة العدنية دورآ هامآ في التقدم الإجتماعي والحضاري منذ الأربعينيات ، وكان هناك رائدات في مجال التعليم والنهوض بالمرأة في المجتمع ، وهذا النشاط التاريخي والإنساني كان الأول والرائد في الجزيرة العربية ، ومن الرائدات الذي سيخلدهم التاريخ : أم صلاح .. رقية محمد ناصر ، سعيدة محمد عمر جرجره البيضاني ، شفيقة خليل ، عديلة بيومي ، زينب باحميش ، ماهيه محمد عمر جرجره البيضاني ، فوزية غانم ، غانيه محمد عمر جرجره البيضاني ، خوله معتوق ، زينب علي قاسم ، قدريه ميرزا ، صفية علي إبراهيم لقمان . وحين قيام الثورة شاركت المرأة العدنية الجنوبية العربية في حركة النضال الثوري ، وقادت المظاهرات ووزعت المنشورات في شوارع عدن ، والرائدات في هذا المجال الوطني : رضية إحسان الله ، عايده يافعي ، نجوى مكاوي ، فوزية محمد جعفر الشاذلي ، نفيسة سالم مندوق ، صافيناز خليفة ، زهرة هبة الله ، إعتدال خليفة ، سميرة الخطيب ، آمنه يافعي ، فوزية باسودان ، ثريا منقوش ، عايده راجح . وقف الإنجليز في ذهول من هذا العمل الثوري النسائي وأخبرني أحد الضباط الإنجليز إن الحركة النسائية الثورية في عدن شيء يدعو إلى الإعجاب والإحترام وقمة الحضارة . ضحكت الحجة فطوم وقالت شكرآ يا محمد لتأكيدك حضارة وكفاح المرأة الجنوبية العربية ، وأيضا في يومنا هذا في الكفاح السلمي تشارك في هذه المسيرة المباركة المناضلة الشريفة المثقفة زهرة صالح عبد الله والمحامية الشجاعة عفراء خالد حريري . ثم قالت الحجة فطوم أصبر يا محمد با أعمر ماي فرست بوري وحدثني عن الراحل العظيم أبن لحج الحبيبة .. فنان الشعب المرحوم فيصل علوي .

يا حجة فطوم .. في الخمسينيات عند إفتتاح إذاعة عدن تولى إدارتها أستاذ الأجيال السيد حسين الصافي ،و بعد ذلك الراحل العدني العظيم الأستاذ علوي السقاف ، هذا الإذاعي الأول في الجزيرة العربية في إخراج برامج الأطفال وأغاني ومسرحيات الأطفال ، هذا الرجل العبقري التاريخي " هو "الفنان محمد فوزي " عدن ، محمد فوزي ذلك الفنان المصري العظيم في مصر أول من غنى أغاني الأطفال . في الخمسينيات أنطلق الفنانون من لحج الحبيبة .. أرض الكادي والحنون والفل والمشموم .. أرض الجمال والموسيقى والشعر ، كانوا هؤلاء رواد الموسيقى اللحجية ، و كانت إذاعة عدن تتولى تقديم أغانيهم إلى الناس وسبب شهرتهم وإنتشارهم الفني وأعطتهم الفرصة التاريخية في عالم الغناء ، وأيضا المردود المادي الكبير لأعمالهم الفنية ، كانت إذاعة عدن محراب الفن والموسيقي والشعر ، ومنهم : الفنان التاريخي العظيم فضل محمد اللحجي ، محسن ابن أحمد مهدي ، أحمد يوسف الزبيدي ، محمد صالح حمدون ، مهدي درويش ، حسن عطا ، عبد الكريم توفيق ، فيصل علوي . وتحول ليل عدن إلى باقات من الفل والكادي والحنون بغناء لحج الجميلة ، في الخمسينيات عاشت عدن أعذب ساعات السنين وحصلت منافسة فنية غنائية تاريخية بين الفنانين من لحج وفنانين عدن ، وكان الليل في ساحل أبين يضج بتلك الأغاني اللحجية الجميلة التي تحمل أرق تعبير عن الحب والفن والجمال ، وغمر ليل ساحل أبين شذي طيب وبخور وألحان لحج . ساحل أبين ذلك الساحل المسحور بآهات العاشقين وفرحة المحبين في بلادنا الجميلة .. هناك في ساحل أبين يكتب الليل بالنغم والدموع ألف قصيدة حب .

يا حجة فطوم .. الفنان الراحل فيصل علوي هو سيد درويش الجنوب العربي ، فيصل قد نهل من الثرات اللحجي القديم الذي خلفه الفنان العظيم القمندان ، بل وأخذ الكثير من الفنانين من ذلك الثرات التاريخي ، ولكن عظمة فيصل أنه قد أضاف "روحه" إلى ذلك الثرات ، بل نستطيع القول إنه أضاف الكثير إلى ذلك الثرات بطريقة فنية تحمل علامة فيصل الرقيقة في دنيا الألحان وأيضآ في طريقة الغناء ، إن فيصل علوي قد خلد فن القمندان وحفظه من الإندثار ، كما عمل ذلك في مصر الفنان الكبير محمد عبد الوهاب حين أخذ وتأثر بفن سيد درويش ولكنه أضاف الكثير وألبس الألحان ثوب النغم المصري العربي ، وحرر هذا الثرات من الموسيقى التركية السائدة في ذلك الوقت ، كما قام في هذا الدور في الخمسينيات عبد الحليم حافظ بعد قيام الثورة المصرية حين أسبغ على الغناء المصري ثوبآ جديدآ يناسب عصر الثورة المصرية ، وأخرج الأغنية المصرية من "التطريب" إلى موسيقى متطورة حديثة ، وكانت بداية هذه الثورة في الغناء المصري .. بأغنية عبد الحليم حافظ .. " صافيني مره " .

قلت للحجة فطوم .. فيصل أستطاع أن يصل إلى قلوب الناس لأنه كان يغني بإحساس رقيق وسهل صادق يستطيع كل الناس أن تسمعه وتتفاعل مع الأغنية ، كانت معظم أغاني فيصل يرقص عليها الناس تلك الرقصات الجميلة التي جاءت من لحج ، فيصل أدخل السعادة والفرح إلى قلب الفلاح والعامل البسيط ، وخاطب أيضا فكر العالم الموسيقي المثقف بذلك الفن الغنائي القادم من حقول الفل والكادي والحنون والمشموم والدريره والعنبروت والعمبى والعباسي والموز ، هذا النغم القادم من حقول الأرض الطيبة يكتب له الخلود . وفي مكان آخر من العالم العربي في لبنان قام بهذه الثورة الموسيقية التاريخية العظماء الرحباني وفيروز ، غنوا للحقول الزراعية والليل والثلج والمطر ، غنوا للمثقف والعامل والفلاح وكل طبقات الناس . قالت الحجة فطوم يقول البعض إن فيصل عاش تحت خيمة القمندان ولم يخرج منها ، قلت لها نعم للحقيقة التاريخية هذا صحيح و لكن كان ذلك في بداية مشواره الفني ، و بعد ذلك خرج فيصل علوي من الخيمة التاريخية وأشاد قصور من الألحان والنغمات التي ما زلت تعطر ليلنا بالحب والفن والجمال.

أخيرآ قالت الحجة فطوم : يا فيصل علوي .. نم في هدوء تحت سماء بلادنا الجميلة .. الجنوب العربي .. يرحمك الرحمن الرحيم .

محمد أحمد البيضاني

كاتب عدني ومؤرخ سياسي كوبنهاجن [فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]