عرض مشاركة واحدة
  #20  
قديم 11-21-2014, 03:36 AM
عضو نشيط جدا
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 164
افتراضي




لطفي أمان بين الصوفية والرومانسية

د. شهاب غانم

كان أول ديوان شعري معاصر ينشر في عدن بل اليمن هو ديوان (الوتر المغمور) لعلي محمد لقمان (1918-1979) عن مطابع فتاة الجزيرة التي كان يملكها رجل النهضة المحامي محمد علي لقمان والد علي لقمان وكان صدوره في عام 1944 وكان ديوانا تغلب عليه القصائد الرومانسية ثم أصدر بعده عام 1945 ديوانا أكثر كلاسيكية بعنوان (أشجان في الليل). وفي عام 1946 أصدر محمد عبده غانم (1912-1994) ديوانه (على الشاطئ المسحور) الذي غلبت عليه القصائد الرومانسية وكان غانم قد سبق تلميذه على لقمان الذي يصغره بست سنوات في نشر كثير من قصائد ديوانه على صفحات* صحيفة فتاة الجزيرة التي كانت قد بدأت في أول يوم من 1940 كصحيفة أسبوعية. وكان غانم يطلع لقمان على قصائده المخطوطة كما يطلع لقمان أستاذه وصهره غانم على قصائده المخطوطة.
وفي عام 1948 عاد لطفي جعفر أمان (1928-1971) من السودان وهو في نحو العشرين من العمر بعد أن حصل على شهادة الدبلوم من كلية غردون ونشر ديوانه الأول (بقايا نغم) في نفس الدار التي نشرت الدواوين المذكورة. وكان قد طلب من محمد عبده غانم كتابة مقدمة للديوان التي يقول عنها د. أحمد* علي الهمداني في كتابه (عدن من الريادة الزمنية إلى الريادة الإبداعية) الصادر في عدن عام 2007: "ونستطيع أن نقول في شيء من الثقة والاطمئنان أن المقدمة النقدية التي كتبها الأستاذ محمد عبده غانم لديوان لطفي جعفر أمان (بقايا نغم) الصادر عن دار فتاة الجزيرة بعدن عام 1948م تشكل نموذجا نقدياً جاداً في الأربعينيات"
ولكن الشاعر الناقد هلال ناجي في كتابه (شعراء اليمن المعاصرون) الصادر ببيروت عام 1966 يقول: "الأستاذ محمد عبده غانم كاتب مقدمة ديوان بقايا نغم يرى: (أن أول ما يلفت النظر في هذا الشعر نزعته الصوفية أو اتجاهه الروحي فالشاعر على حد قوله ليس من ماء وطين بل هو روح ليس يفنيها الزمن. وأن غاية ما يصبو إليه الصوفي أن يتخلص من قيود الجسم ليستحيل روحاً خالدة باقية بقاء الأبد باتحادها مع القوة الأزلية التي لا تزول..) وليس لهذه الظاهرة، في نظرنا، علاقة بالتصوف وأنما هي من مظاهر الرومانسية.." فإذا كان هلال ناجي على حق فكيف يمكن أن يغيب عن غانم مثل ذلك وهو خريج في الآداب وشاعر كتب الكثير من القصائد الرومانسية في تلك الحقبة بل يقول الناقد الكبير الشاعرالدكتور عبد العزيز المقالح في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة للدكتور غانم " انه ( أي غانما ) - بدون شك مؤسس المدرسة الرومانسية في شعر اليمن المعاصر اذا لم يكن في كل اليمن ففي جنوبه على الاقل .. ".
والحقيقة أن غانما قد لا حظ الازدواجية عند لطفي فتساءل : " ولست أدري إلى أي حد يؤمن الشاعر بالصوفية... أما الموضوع الذي يتناوله الشاعر العابد كما يسمي نفسه فهو الحب أولاً وأخيراً... والعجيب في أمر هذا الحب أن يكون عند الشاعر معنى وجوده المادي والروحي في آن واحد .. ولذلك نجده يتحدث تارة عن الحب العذري وأخرى عن الحب الآثم ولست أدري أصدق الشاعر حين يقول:
فلست العاشق المفتون
إلا بالهوى العذري
أم حين يقول:
*لم يدع كرمة من الإثم إلا
عصرتها الآثام في كأساته
ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن هذا الإثم كثير على شاب لم يكد يتخطى العقد الثاني من عمره وأن ليالي الخمر واللهيب التي يحدثنا عنها ليست في الواقع إلا صدى لألحان علي محمود طه* والياس أبي شبكة وأضرابهما.."
وقد أشار غانم إلى تأثر لطفي بالشاعر السوداني الرومانسي الصوفي التيجاني يوسف بشير الذي رحل في شبابه عام 1936 قبل وصول لطفي إلى السودان بسنوات، وفي ديوان بقايا نغم قصيدة مهداة إليه. ولكن لطفي صادق أيضا عدداً من شعراء السودان. يقول د. نزار غانم في كتابه (جسر الوجدان بين اليمن والسودان) المنشور في صنعاء عام 1994 أن صديق لطفي الحميم والذي كان لطفي يكرر في حواراته أنه كان قدوته الشعرية هو الطبيب السوداني محمد عثمان الجرتلي الذي شاركه حياة البؤس والصعلكة وتبادلا القصائد بل زار لطفي في عدن في الستينيات. كما تعرف لطفي على شعراء وأدباء السودان أمثال محمد مهدي المجذوب وإدريس جماع والبروفسير عبدالله الطيب.
وفي مقال لغانم نشر في صحيفة الشرق الأوسط في الثمانينيات تحت عنوان لطفي جعفر أمان ضمن سلسلة مقالات تحت عنوان (شعراء يمنيون عاصرتهم) وقد أعدت أنا نشر المقال ضمن كتاب غانم (دراسات في الشعر واللغة) الصادر عن ندوة الثقافة والعلوم بدبي عام 1999 بعد رحيل والدي رحمه الله، يوضح غانم: "ولكن هلال ناجي وإن كان قد وافقني في بعض ما ذهبت إليه من ذكر أسماء الشعراء الذين كان لهم أثر في شعر لطفي إلا أنه ناقشني الحساب فيما قلته في مقدمتي عن نزعة لطفي الصوفية ذاهبا إلى أن ما زعمت من نزعة صوفية في شعر لطفي لم يكن إلا مظهرا من مظاهر الطريقة الرومانسية. بيد أنني مازلت متمسكا برأيي في أن هناك نزعة صوفية وراء بعض أشعار لطفي". ثم يذكر غانم عددا من النماذج الشعرية من قصائد الديوان ليؤكد وجهة نظره مثل قوله:
ونمرح بين أيادي الإله
ونسبح في قيضه العلوي
وقوله :
فمن لي هنا في خبايا السماء
بقلب يطوقني بالرجاء
وقوله:
هنا عالم الله في قدسه
هنا العالم العلوي المصون
ويقول غانم: "وإذا قيل وكيف ينزع إلى التصوف شاعر تغنى بالمرأة والخمرة في الكثير من قصائده .. شاعر رسام يرسم على غلاف ديوانه الأول فتاة عارية وعودا وكأسا يموج بالراح وديوان شعر مفتوح ويهدي هذا الديوان إلى معشوقته المسيحية ..قلنا إن الشاعر إنسان قبل كل شيء وهو كإنسان قد يجمع في نفسه بين المتناقضات فتغلبه على شعره فإذا هو صوفي تارة وإباحي أخرى، ومع ذلك فيما نجده من شعر لطفي المتصوف لا يجعله صوفيا خالصا ولكنه يكشف عن نزعة في نفسه إلى التصوف".
أما رأيي الشخصي فهو أن لطفي كشاب مراهق يدرس في مجتمع تنتشر فيه الصوفية ولكن لا يخلو من شرب الخمر بين الطبقة المتعلمة كانت تتجاذبه مثالية الفتى المراهق من جانب وإغراءات المتعة من جانب آخر فظهر هذا التجاذب في شعره. ولكن تلك النزعة الروحانية في شعر لطفي ضعفت في دواوينه اللاحقة وإن لم تختف تماما ويكفي أن نقرأ قصيدته (الطريق إلى الله) في ديوانه الثاني (الدرب الأخضر) لندرك ذلك. وأذكر أن لطفي عندما أعد ديوانه الثاني للنشر في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي بعث بالمسودة لوالدي ليكتب له مقدمة قائلا أن غانم كان من شجعه وكتب مقدمة ديوانه الأول ولا يرى من هو أحق وأقدر منه بكتابة مقدمة ديوانه الجديد. ولكن والدي كتب له رسالة ذكر له فيها أنه – أي لطفي- قد أصبح أستاذا بارزا لمئات الطلبة وليس فتى بقايا نغم الذي كان يمكن أن يعذر لبعض تجاوزاته في التعابير المتعلقة بقيم الدين والمجتمع* فيما يكتبه بسبب غضارة عمره، ويقترح عليه إعادة النظر في بعض الأبيات لأنه قدوة لتلاميذه المعجبين به. وقد قرأت تلك المسودة في كراسة مدرسية سميكة بخط أستاذي لطفي المتميز كما قرأت رسالة والدي وأخبرته أن رسالته لن تعجب لطفي. ولكن والدي قال ربما، ولكن واجبه كمسؤول عن التربية والتعليم أن يقدم له النصيحة التي يعتقدها كما لا يمكنه أن يتجاهل مصلحة المجتمع بذريعة حرية الفن. وكان من سوء حظي أن أحمل رسالة والدي شخصيا إلى أستاذي الذي رحب بي في منزله وقرأ الرسالة وحاول ألا يبدي عدم فرحه بها وإن لم يخف ذلك علي. وفي الواقع نشر لطفي ديوانه الثاني (الدرب الأخضر)* بعد ذلك عن طريق دار المعارف بالقاهرة عام 1962 بدون مقدمة ولا أدري إن كان قد أجرى على المسودة أية تعديلات.
وديوان بقايا نغم يحوي 33 قصيدة كلها من الشعر البيتي ما عدا قصيدة خطيئة غريب التي تحوي مقاطع اشبه بشعر التفعيلة. ويحوي الديوان ما يشبه مسرحية من فصل واحد في خمس صفحات بعنوان حائر في السماء وابطال المسرحية الخيال والسحب والروح والحور والشاعر ..إلخ. القسم الأخير من الديوان تحت عنوان نبأة الطير عبارة عن ست قصائد مناسبات من الشعر التقليدي شكلا وضمونا.
ويقول الدكتور عبدالعزيز المقالح في كتابه (من البيت إلى القصيدة) المنشور في بيروت عام 1983: "ابتدأ لطفي جعفر أمان في كتابة الشعر وهو شاب حدث لم يتجاوز العشرين من عمره، وكانت محاولاته الأولى تختلف في بعض الملامح عن الشعر السائد في اليمن حتى المتجدد منه، صحيح أن قصائده لم تكن تختلف كثيرا عن قصائد الآخرين من أنصار التجديد الشعري المحدود والذين يجنحون إلى استخدام مظام المقاطع المتعددة البحور بدلا من الخضوع للأشكال التقليدية في بنية القصيدة البيتية والقائمة على وحدة البحر ووحدة القافية. وكان ذلك الاختيار موقفا تجديدياً واتجاها نحو البناء المتطور للقصيدة، وقد بدأ معالم ذلك التطور الشعري في اليمن الدكتور محمد عبه غانم. ولم يكن لطفي جعفر أمان في محاولاته الأولى متقدما على شعراء آخرين أمثال لقمان والشامي والحضراني في اختيار المفردات الموحية وفي اختيار أسلوب التناول الرومانسي، ولكنه كان متقدما عليهم في شيئ آخر، وكانت قصائده أو بعضها تختلف عن قصائد هؤلاء جميعا بما يمكن تسميته بالإرهاص المستشرف أو المبشر بالجديد الشعري.." .
أما الجزء الأول من ديوان (بقايا نغم) ففي بعض قصائده القليلة شيء من الروحانية* مثل (الصوفي المعذب) المهداة للتيجاني و(حائر في السماء) ولكن معظم قصائدة تحفل بذكر الخمر والكؤوس والأقداح وتتنتشر هذه الألفاظ في عدد كبير من صفحات الديوان. يقول في قصيدة في الكوخ:
لا تلمني إذا ارتشفت الحميا
وشفاه الملاح منها تغار
هن أشهى إلي من ريق الخمر وأحلى كأس علي تدار
غير أن الزمان أودى بقلبي
صائب من خطوبه جبار
وسبتي الحياة باللألأ الزائف حتى أودت بي الأخطار

وفي قصيدة حواء، وهي قصيدة موجودة في الطبعة الأصلية من الديوان ولكن لسبب ما لم يعد نشرها في الأعمال الشعرية الكاملة، يقول وهو يبدو كمن يغرق هموم علاقته بالمرأة في الصهباء كما يعبر عن الصراع الداخلي في نفسه بين الشك والإيمان والفضيلة والشهوات:
لوحت لي ببسمة تخلس النور وتذكي نار التلهف فيّا
ثم ولّت وفي يدي كأسها المر فحطمته على شفتيا..
وصورة تحطيم الشاعر الكأس على شفتيه سبقه إليها الأخطل الصغير بشارة الخوري في قصيدته الشهيرة (الهوى والشباب) حيث يقول:
لم يكن لي غد فأفرغت كأسي
ثم حطمتها على شفتيّا
**** ثم يقول لطفي في قصيدته نفسها وهو يتأرجح بين الشك واليقين:
قال هذي – وحرك الكأس – سلواي إذا الحزن هاج بي وعزائي..
كل طهر دنسته في هواها
آه من عفتي ومن حواء
أوغلت بي الظنون في عالم الشك وآمنت إنما في رياء
ورأيت الحياة فوارة الغي تلظى بشهوة هوجاء
**** ورأيت الإيمان نورا حبيسا
في قلوب نزيهة بيضاء
**** ثم آمنت.. ثم أسلمت للشك.. وعربدت في هوى الآراء
**** أما في قصيدة البولندية الحسناء فنرى تأثر لطفي بعلي محمود طه خصوصاً في قصيدته الشهيرة (القمر العاشق). يقول لطفي:
مقامك في سماء الله لا في هذه الأرض
يزينك من هوى عيسى صليب طاهر الومض
على نهدين مسحورين في صدرهما البض
وأنت مفاتن عريت لنور القمر الفضي
إلى مخدعك العطري دنياه ودنياك
أخاف أخاف يا حسناء إن أخنى وأدماك
أما علي محمود طه فيقول في (القمر العاشق):
إذا ما طاف بالشرفة ضوء القمر المضنى
فضمي جسمك العاري وصوني ذلك الحسنا
وفي نهديك طلسمان
في حلهما افتنا
أغار أغار إن قبل هذا الثغر أو ثنّى
فردي الشرفة الحمراء دون المخدع الأسنى
فالوزن نفسه والصور والألفاظ متقاربة في بعض الأبيات.
ويلاحظ افتتان لطفي بالصليب الذي يصفه بالطاهر. ومثل هذه الصورة نجدها في قصائد أخرى من الديوان. فإهداء الديوان يبدأ كما يلي في أبيات تفعيلية هي من الأبيات التفعيلية الأولى في شعر لطفي والشعر اليمني:
إليك يا ابنة عيسى
إنت يامن يفيض في صدرك البض جلال الصليب نورا عليا
لك مني هذا الذي بين كفيك خفوق بحبك المفقود..
وأول قصيدة في الديوان بعنوان (ذات الصليب) ومنها:
إيه إيفون والملاحة تفتر بريقا كهالة البدر فيك
نعم هذا الصليب في صدرك البض وجل المسيح في عينيك
وذوات الصليب في قصائد الديوان كما يذكر د. نزار غانم في كتابه جسر الوجدان بين اليمن والسودان المنشور في صنعاء عام 1994 هن إيفون وهيدا البولندية النصرانية البيضاء في بيئة من السمراوات وكانت كما يبدو ابنة أحد المدرسين في الكلية ، كما كانت هناك السودانية القبطية نعمات. ولكن ما كل هذا الإعجاب بالصليب! صحيح إننا أمرنا بإجلال عيسى المسيح عليه السلام ولكن القرآن الكريم يقول لنا في سورة النساء الآية 157 (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم..).ْ
ومما يجدر بنا أن نذكره هنا هو أن لطفي بعد عودته إلى عدن عام 1948 كتب عددا من مقالات النقد الاجتماعي في صحيفة فتاة الجزيرة تحت باب سماه (ما قل ودل) كما ذكر عبدالفتاح الحكيمي في كتابه (النقد الأدبي والمعارك القلمية في اليمن 1932-1955) الصادر بصنعاء عام 1998 وتناول لطفي في بعض تلك المقالات مظاهر الفساد الأخلاقي في عدن في تلك الفترة مثل شرب الخمر والزنا إلخ ..
وقد أصدر لطفي بعد ذلك عددا من الدواوين منها الدرب الأخضر، وكانت لنا أيام، وليل إلى متى؟ وموكب الثورة، وإلى الفدائيين في فلسطين، وإليكم يا إخوتي، وديوان أغاني باللهجة العدنية بعنوان ليالي وهناك أغنيات شهيرة من كلماته. وعمل في حقل التربية والتعليم حتى وفاته رحمه الله في سن الثالثة والأربعين ورثاه عدد كبير من شعراء وأدباء اليمن والوطن العربي .


رد مع اقتباس