النحو والتفسير (ومضات جذورية) - بقلم - د- محمد فتحي راشد الحريري طباعة
مقالات - صفحة الدكتور/ محمد فتحي راشد الحريري
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS   
الأحد, 01 يناير 2017 06:51
حلقة من جذور

سيكون بحثنا هذا من خلال آيـــةٍ كريمة وحديث شريف:

(1)-قال تعالى في محكم تنزيله:

((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ)) سورة القلم/ 42 .

يومَ: مفعول فيه ظرف زمان، لكنه يحتاج عند النحويين إلى متعلق، أي عامل.

يجوز أن يكون العامل في "يوم" "فليأتوا" أي فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم.

لأنَّ الآية الكريمة مع سباقها:

((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا

تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42))).

ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل, أي اذكر يوم يكشف عن ساق; فيوقف على "صادقين" ولا يوقف عليه على التقدير الأول. وقرئ "يوم نكشف" بالنون. "وقرأ" ابن عباس "يوم تكشف عن

ساق" بتاء مسمى الفاعل; أي تكشف الشدة أو القيامة. عن ساقها; كقولهم: شمرت الحرب عن ساقها. قال الشاعر: فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب

شمرا وقال الراجز: قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا وقال آخر: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طراد الطير عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها حمراء تبري

اللحم عن عراقها وقال آخر: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح وعن ابن عباس أيضا والحسن وأبي العالية "تكشف" بتاء غير مسمى الفاعل. وهذه القراءة راجعة إلى معنى "

يكشف" وكأنه قال: يوم تكشف القيامة عن شدة. وقرئ "يوم تكشف" بالتاء المضمومة وكسر الشين; من أكشف إذا دخل في الكشف. ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف; إذا انقلبت شفته العليا.

وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق" قال: عن كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الأمر وجده.

وقال مجاهد: قال ابن عباس هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والأمر قيل: كشف الأمر عن ساقه. والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر

عن ساقه; فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه; كساق الشجرة وساق الإنسان. أي يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور

وأصلها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وقيل: يريد وقت أقتراب الأجل وضعف البدن; أي يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه, ويدعوه المؤذن إلى الصلاة فلا

يمكنه أن يقوم ويخرج. فأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه فإنه عز وجل يتعالى عن الأعضاء والتبعيض وأن يكشف ويتغطى. ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن

نوره عز وجل. وروى أبو موسى عن النبي صلي الله عليه وسلم في قوله تعالى: "عن ساق" قال: (يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا). وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: حدثنا

الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد ابن سلمة عن عدي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلي

الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحد فيقال لهم ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا

ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره - قال - وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقال فكيف تعرفونه ولم تروه قالوا إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا

وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" فيقول الله

تعالى عبادي أرفعوا رءوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار). قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد

حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمان; فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا. وقال قيس بن السكن: حدث عبدالله بن مسعود عند عمر بن الخطاب فقال:

إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء, حفاة عراة يلجمهم العرق, فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاما, ثم ينادي مناد: أيها الناس, أليس

عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم. قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار,

فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال لهم: ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون حتى يأتينا ربنا; فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم

فيخر من كان يعبده مخلصا ساجدا, ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد, فيذهب بهم إلى النار, ويدخل هؤلاء الجنة; فذلك قوله تعالى: "ويدعون إلى السجود فلا

يستطيعون"

والسجود، في لغة الجذور ، من الجذر (س ج د) ، تقول العرب : سَجَدَ: بمعنى ذلَّ وخضع.
وقال الشاعر:

تَرى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحَوافِرِ    بِجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراتِهِ

ومنه سُجودُ الصلاة، وهو وضع الجَبْهة على الأَرْضِ.
والاسْمُ السِجْدَةُ بالكسر. وأقرب ما يكون العبد الى ربِّه وهو ساجد .

وقال ابن فارس رحمه الله :السين والجيم والدال أصلٌ واحدٌ مطّرد يدلّ على تطامُن وذلّ. يقال سجد، إذا تطَامَنَ.
وكلُّ ما ذلَّ فقد سجد. قال أبو عمرو: أسْجَدَ الرَّجُل، إذا طأطأَ رأسَهُ وانحنى. قال حُميد:
فُضُولَ أزِمّتِها أسْجَدَتْ    سُجودَ النَّصارى لأربابِها

وقال أبو عبيدة مثلَه، وقال: أنشدَني أعرابيٌّ أسديّ:يعني البعيرَ إذا طأطأَ رأسه.

(2)-حديث شريف: (ذكاةُ الجنين ذكاة أمّه)، وفي هذا الحديث الشريف المرويّ

عند أبي داود السجستاني (في السنن)عن جابر رضي الله عنه، وغيره (أحمد والترمذي والبيهقي وابن ماجه):

قالَ الفقهاءُ: ذكاةُ الجنين ذكاة أمِّه.

ما المعنى برفعِ كلمة ذكاة الثانية؟ وما المعنى بنصبها؟

((ذكاة الجنين ذكاةُ أمه)): قال بعضهم: ((ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه)): تبعاً لتغير الإعراب تغير الحكم، فالذي يقول: ذكاةُ الجنين -وهم الأكثر- ذكاةُ أمه، يقول: ذكاةُ الجنين هي ذكاةُ أمه فلا

يحتاج إلى تذكية، والذي يقول: ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه، يقول هو منصوب على نزع الخافض، فتكون ذكاته كذكاة أمِّه فلا بد من تذكيته، عند أصحاب القول الأول لا يحتاج إلى تذكية، إذا ذكيت

أمه وخرج من بطنها ميتاً فذكاة أمه تكفي، والذين يقولون: ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه يقولون: لا بد من تذكيته كذكاة أمه، والمسألة معروفة.

 

وهناك سؤال: ولكن هل ذكاةَ بالنصب تعرب: اسماً منصوباً بنزع الخافض؟

والجواب: الذي أراه أنها، مفعول مطلق لفعل محذوف.

لعل الذي يؤيد النصب بنزع الخافض، رواية البيهقي، في ذكاة أمه، ورواية أخرى بذكاة أمه.

قيل: نزع الخافض سماعي يُحفظ ولا يُقاس عليه إلّا قبل أنْ وأنَّ.

وتأوّل بعضهم النصب على الظرفية، أي ذكاة الجنين وقت ذكاة أمه.

ونقصد، بالطبع نائباً عن الظرف.

والطيبيّ صرّح بأنها نائب مفعول مطلق؛ أي: يُذكّى تذكيةً مثلَ ذكاة أمّه، فحذف المصدر وصفته، وأقام المضاف إليه مقامه.

قلنا: ورغم ذلك لا يبعد كونها نائباً عن الظرف؛ أي: وقت ذكاة أمه، والله أعلم.

وهكذا رأينا كيف يؤثر الفهم للمعنى ( التفسير) في الإعراب ، وكيف يؤثّــر النحو والإعراب في التفسير ، وهو باب عريض من أبواب علوم القرآن الكريم من نظرةٍ جذوريّــة ، يجب أن

نوليه مزيدا من الاهتمام وخاصة في عصرنا الحديث.