إغتيال القيادات الجنوبية - بقلم: د. فارس سالم الشقاع طباعة
سياسة - سياسة
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS   
الأربعاء, 29 أغسطس 2012 11:07

 رؤية سياسية


التعليل الأمني
أحدث اغتيال القائد الجنوبي الفذ اللواء سالم علي قطن زلزالا ضخما نظرا لما يتمتع به الرجل من كفاءة وخبرة قيادية وتاريخ عسكري حافل كلله بانتصار ساحق على قوى أنصار الشر في محافظة أبين وتصفية المحافظة من هذا الشر الوبيل في غضون فترة زمنية قياسية.

 

ولم يكن اللواء قطن القائد الجنوبي الوحيد الذي يستشهد في عملية جبانة غادرة، بل سبقه ولحقه عدد من القيادات العسكرية الجنوبية كان آخرهم الشهيد العميد الركن عمر بارشيد.

وفي كل عملية من هذه العمليات الغادرة نجد وسائل الاعلام بكلها وكلكلها تقتفي أثر المصدر الأمني وتقوم بتعليق الجريمة على مشجب "القاعدة". وبغض النظر عن موقع الشهيد المستهدف من المعركة المحتدمة ضد "القاعدة"، سواء كان اللواء قطن الذي خاض معركته الأخيرة مع أنصار الشريعة في أبين، أو العميد بارشيد والذي لاصلة مباشرة له بأية معركة مع "القاعدة"، فإن معظم التحليلات، إن لم نقل كلها، تتجه نحو "القاعدة"، وبهذا تتحول كلمة "القاعدة" الى مايشبه المياه التي تسكب على جمر الأسئلة الملتهبة فتطفئها قبل أن يمتد ّ لهيبها ويطال الأيدي الآثمة التي تقف خلف الجريمة. 
 
وفي حالة اللواء سالم قطن يصبح تعليل الجريمة بتنظيم القاعدة مقبولا جدا نظرا لدوره الكبير في القضاء على جماعة هذا التنظيم في جنوبنا الحبيب.

ولكن ماذا يعني القول إن القاعدة هي التي تقف خلف جريمة اغتيال اللواء قطن؟
الإجابة هي أن هذا قول ٌ خبيث الغرض منه توجيه موضوع الجريمة وجهة أمنية صرفة. أمّا ما يترتب على هذا التوجيه فهو أن على الرئيس عبدربه منصور هادي، كي يحمي جنرالاته الجنوبيين، أن يواصل خوض معركته ضد تنظيم القاعدة، جماعاتٍ وأفرادا، في كل سهل وجبل، حتى يقضي عليهم البته.

ولكن هل هذا ممكن؟
لو افترضنا أن هذا ممكن، وأن الرئيس هادي تمكن بمعجزة من تطهير الجنوب، بل واليمن بكله، من آخر نبتة إرهابية، وقضى عليها تماما، فلا بد أن نتذكر أن ثمة مستنقعا مجاورا له يولّد يوميا العشرات بل والمئات من الإرهابيين، عنينا بذلك المستنقع الصومالي المستعد على الدوام لتصدير منتجاته الى شواطئنا، فتجد على أرضنا المستورد جاهزا لاستلام البضاعة، وتجهيزها، وتوجيهها. وفي الوقت الذي تغرق فيه قوات الرئيس هادي في مطاردة عناصر القاعدة، تكون تلك العناصر الإرهابية المستوردة تقوم بالمهمة وتواصل الأعمال الإجرامية باغتيال جنرالات هادي الواحد تلو الآخر.
 
إن توجيه الموضوع صوب الإتجاه الأمني وربطه بتنظيم القاعده  إنما يبدو الغرض منه تتويه القيادة الجديدة وجعلها تغرق في معركة لانهاية لها، مايصرف النظر عن البحث الجدّي عن الأيدي الخفية التي تقف خلف سلسلة اغتيالات القادة الجنوبيين.
 
الرؤية السياسية
رأينا مما سبق أن التعليل الأمني لهذه الجرائم المتواصلة بحق القادة العسكريين الجنوبيين لايفضي بنا الى شيء ذي معنى، بل إن توجيه الموضوع نحو هذه الوجهة إنما هو جريمة بحد ذاتها الغرض منها إحداث الإرباك، والتستّر، والتغطية على الأسباب الحقيقية الكامنة خلف اغتيالات الجنرالات الجنوبيين.

إن النظرة المتمعنة تبين أن سلسلة الجرائم التي لحقت بالقادة الجنوبيين إنما هي عمل سياسي منتظم، وممنهج، ويسير وفق خطة مدروسة هدفها تصفية كافة القادة العسكريين بل والسياسيين الجنوبيين الذين يمكن أن يشكلوا أداة للرئيس عبدربه هادي في قيادته للبلاد.

وقد ذهب بعض المواطنين ممن ينشرون تعليقاتهم على مواقع الانترنت المختلفة، الى تشبيه مايجري حاليا من تصفيات للقادة الجنوبيين بمثيلاتها التي حصلت عقب قيام الوحدة، خاصة سنة 1993. وكانت هذه التعليقات تعبيرا عن حسّ ٍ شعبي عفوي لايخلو من دلالة ولكن يعوزه عمق التحليل السياسي.

الشخصية الجنوبية في العقلية القبلية في الشمال
ارتبطت الشخصية الجنوبية في العقلية القبلية في الشمال ببناء الدولة، وارتسمت هذه الشخصية في مخيلات مشائخ الشمال رمزا ً للنظام والقانون. فلا يذكر مشائخُ الشمال الجنوب َ وقياداته حتى تتبدى أمامهم صورة الدولة، وحضور الدولة، ومؤسسات الدولة. ومما لاشك فيه أن دولة النظام والقانون تجعل أمر السلطة في البلد شأنا من شأن مؤسسات الدولة، كالقضاء والأمن والجيش وغيرها من المؤسسات الحكومية العسكرية والمدنية، ولا يجوز لأي شخص، أو طرف، أو جهة التدخل في شئون هذه المؤسسات.
 
لكن واقع الأمر في شمال اليمن كان قائما على تهميش إن لم نقل غياب مؤسسات الدولة، وضعف حضورها، وعدم وجود أية صلاحيات لها في شأن النظام. واعتاد الناس هناك، خاصة في الثلاثين سنة الأخيرة، أن يروا سلطات البلاد تتركز في أيدي عصبة من القوم يطلقون على أنفسهم أهل الحل والعقد، وهم عبارة عن مجموعة من الشخصيات القبلية من مشائخ وضباط عسكريين ورجال دين. وعلى الرغم من وجود شكلي لمؤسسات حكومية مثل مجلس النواب والحكومة وغيرها، فإن أفراد هذه العصبة هم الادارة الفعلية للبلاد، وهم الذين يرسمون سياسة البلاد الداخلية والخارجية، ويضعون الخطوط العامة لاقتصادها، ويحددون مصادر دخلها، كما يحددون نُسَب تقسيم ثروات البلاد فيما بينهم، وحصة كل طرف من هذه الأطراف  بحسب قوته القبلية والعسكرية.

وعلى سبيل المثال فإن كل طرف قبلي له حصة في المؤسسات الحكومية المدنية من وزراء، وسفراء، ومحافظين.. كما أن له حصته في المؤسسات العسكرية أيضا من مناطق عسكرية، ومحاور، وألوية، ووحدات، فمثلا إذا كان الحرس الجمهوري، والمنطقة العسكرية الجنوبية، والمنطقة العسكرية الوسطى، تتبع علي عبدالله صالح، فإن حصة علي محسن الأحمر هي الفرقة الأولى مدرع، والمنطقة العسكرية الشمالية الغربية، والمحور الشرقي، ومحور عمران. كما أن الراحل الشيخ عبدالله الأحمر له حصته من القوة العسكرية ممثلة بميليشيات مسلحة ينفق عليها من الخزينة العامة. ونفس الأمر ينطبق على أجهزة الإدارة  المحلية، والأجهزة الأمنية، فكل طرف له حصة من عديد مدراء الأمن في المحافظات، ومدراء النواحي، ومديري الأمن، ورؤساء أقسام  الشرطة وغيرها.

وقد كشف وزير المالية الحالي العقيد / صخر الوجيه في مقابلة تلفزيونية على الهواء مباشرة، كشف أن الشيخ صادق عبدالله الأحمر يتلقى مايسمونه اعتمادا من مصلحة شئون القبائل مقداره ثمانية ملايين وثمانمائة ألف ريال شهريا، أي أن هذا الشيخ يقتطع من أموال الشعب ميزانية سنوية تفوق المائة مليون ريال دون أن يقدم خدمة ً تُذكَر للبلاد أو نفعا ً يُشكَر للعباد. هذا المبلغ الهائل يستلمه شيخ واحد من مصدر حكومي واحد فقط ألا وهو مصلحة شئون القبائل، فما بالنا بالعديد من المصادر الحكومية الأخرى التي يستحلبها هذا الشيخ ما يُضاعف له هذا المبلغ أضعافا مضاعفة.

وإضافة الى هذا الصنف من مشائخ الدرجة الأولى هناك مشائخ الدرجة الثانية الذين هم أدني من حيث القوة القبلية والعسكرية، وهؤلاء يحصلون من النظام على اعتمادات شهرية وهبات وأراضي وغيرها كل بحسب قوة قبيلته. وإذا مااستعصى على البعض من هؤلاء المشائخ الحصول على نسبة معينة من الميزانية العامة للدولة ذهب ليفجر أنابيب النفط، أو "يخبط" خطوط الكهرباء، أو يرسل عناصر من قبيلته لاختطاف سياح أجانب كي يبتزّ  الدولة ويجبرها على التفاوض معه، ودفع مايعتبره "حقا شرعيا" ضمن تقاسم المشائخ وأرباب النفوذ للميزانية العامة للدولة.

والطريف أن المشائخ يعتبرون أن أسلوب التفاوض الذي ينتهجه النظام إزاء هذه العناصر التخريبية في البلاد بدلا من مواجهتها بالقوة، وكفّ يدها عن التطاول على المصالح العامة، يعتبرون ذلك عين الحكمة، ويرونه دليلا على الذكاء، والمهارة القيادية، والحنكة السياسية. فهذا الشيخ سنان أبو لحوم يقول إن علي عبدالله صالح رئيس ذكي، فهو بدلا من إرسال قوة عسكرية، يبعث بمبلغ من المال الى القبيلة أو الشيخ الذي تمرد على النظام والدولة كي يعالج مشكلة التمرّد.

طبعا سلوك المشائخ ونهبهم لثروات البلاد بهذه الطريقة الوقحة والفجّة،  وممارسة الأساليب الخارجة عن النظام والتي تلحق أفدح الضرر بالمصالح العامة للشعب، لم يكن لها أثرٌ في دولة الجنوب السابقة، ومشائخ الشمال يعلمون هذا. ولهذا فإن حضور الشخصية الجنوبية في الحياة السياسية والعسكرية تعني خطرا داهما على المصالح غير المشروعة لمشائخ الشمال والمتنفذين العسكريين وأتباعهم من رجال الدين. وهم يدركون كل الإدراك أن نموذج الدولة الذي تمثله الشخصية الجنوبية إنما يقوم حتما على أنقاض السلطة المطلقة للمشائخ وتدخلهم السافر في إدارة شئون البلاد، كما يعلمون علم اليقين أن القادة الجنوبيين لايمكن لهم أن يسمحوا باستمرار هذا النهب الوقح، والإستيلاء الفاحش على ثروات الشعب دون وجه حق.

ومن هنا يمكن القول إن التحليل السياسي للعمليات المتفرقة التي تستهدف الشخصيات الجنوبية العسكرية والسياسية، وتعْمَد الى خلق الاضطرابات بأنواعها تحت يافطة "القاعدة"، ونشر الفتن القبلية بأشكالها في جنوبنا الحبيب.. يخلص بنا الى استنتاج أن كل هذا ليس مجرد مسألة أمنية يمكن رميها بسهولة على "القاعدة"، بل هو في حقيقة الأمرعملٌ سياسي  بالدرجة الأولى، مدروس، ومركّز، ومخطط ٌ له بعناية فائقة، غرضه واضح ٌ وجلي ّ ألا وهو تشتيت جهود الرئيس عبدربه هادي، ولا يمكن تفسير ذلك إلاّ أنه شكلٌ من أشكال الدفاع عن السلطة المطلقة لمشائخ حاشد وبكيل، وضرب ٌ من ضروب مواجهة مشروع بناء دولة النظام والقانون.

هذا هو الفرق بين النظر الى عمليات "القاعدة" بأنها مجرد أعمال إرهابية متفرقة تقتضي مواجهة أمنية، وهو مايدخل القيادة السياسية في لجّة لا نهاية لها من المتابعة والمطاردة لأشباح، وبين النظر الى هذا الإرهاب كعمل سياسي يقتضي مواجهة ً بإجراءاتٍ سياسيةٍ شديدةٍ وحازمة ورادعه، توقفه عند حده وتمنعه من التمادي حتى لايأتي على جنرالات الرئيس هادي وضباطه وكوادره.

نقطة جوهرية
وهنا لابد لكل القيادات الجنوبية بمختلف مشاربها السياسية والفكرية وبرامجها المختلفة من التوقّف عند نقطة جوهرية لايمكن إغفالها على الإطلاق.

إن التحالف العسكري القبلي الديني في الشمال إذ يسعى الى اغتيال وتصفية القيادات السياسية والعسكرية الجنوبية، فإنه لايعير فرقا البتّه بين أن تكون الشخصية الجنوبية تحت قيادة علي سالم البيض أو عبدربه منصور هادي. فجوهر الأمر في نظر قوى الطغيان الشمالي هو الشخصية الجنوبية الحامل لمشروع بناء الدولة. ولهذا نلاحظ أن مسلسل اغتيال القيادات الجنوبية في العام 1993 وحتى حرب 1994، قد جرى تفعيله بصورة ٍ محمومة منذ اندلاع انتفاضة شعبنا الجنوبي التحررية وحراكه السلمي المظفر بإذن الله. وما لبث تحالف الشرّ في صنعاء أن استشعر شدّة الخطر مع تسلم الرئيس هادي مقاليد السلطة في البلاد، وتغييره القيادات العسكرية الشمالية، واستبدالها بقيادات جنوبية ثم إعلان حرب ٍ لاهوادة فيها ضد أنصار الشريعة وجماعات القاعدة، وتصفية محافظة أبين وشبوه من رجس القوى الإرهابية.          

اللواء الركن سالم قطن لم يكن أول شهيد جنوبي، والعميد الركن عمر بارشيد لن يكون آخر شهيد جنوبي. السلسلة طويلة، والاستهداف يجري بصورة مدروسة، وعبر فترة زمنية معقولة، بحيث لاتأتي الضحية الجديدة إلا وقد نسى الناس الضحية الأولى، ويصبح من السهل تغليف هذه العمليات الإجرامية ذات الطابع السياسي البحت برداء النشاط الارهابي "للقاعدة". فتختفي بصمات القوى الخفية المدبّرة من على مسرح الجريمة.

 

وفي ختام هذا التحليل السياسي للأعمال الإرهابية تبرز توصيتان:
الأولى: أن يتخذ الرئيس هادي اجراءاتٍ لاتقتصر على المكافحة الأمنية لعمليات عناصر "القاعدة" الإرهابية، بل تتعداها الى وضع حزمة من الاجراءات السياسية الحازمة والرادعه التي تمس القيادات الفعلية التي تقف خلف القاعدة وترعاها، وترسم لها أهدافها، وتوجهها، وذلك بالتنسيق والدعم الكامل من المجتمع الدولي. هذه الإجراءات السياسية الزاجرة اذا مااعتمدها الرئيس هادي، وهي أمرٌ ملحٌ جدا وغير قابل للتأجيل، سيكون من شأنها أن تضع حدا ً لاستهداف جنرالاته وضباطه وقادته السياسيين ممن يعتمد عليهم في نجاح إدارته لبناء الدولة. أما التواني عن ذلك فمن شأنه أن يبدد جهود الرئيس وجهود قياداته ورجالات حكمه بحثا عن معالجةٍ أمنيةٍ عصيّة ٍ للأعمال الإرهابية المتفرقة.

الثانية: أن تدرك القيادات الجنوبية مسئوليتها التضامنية تجاه بعضها البعض، وتعلم يقينا أنها جميعا مستهدفة بغض النظر عن برامجها السياسية، أكانت فيدرالية أو استقلالية.

اللواء الركن سالم قطن بكاه عبدربه منصور هادي كما بكاه على سالم البيض وعلي ناصر محمد وحيدر العطاس ومحمد علي أحمد وأحمد الحسني وحسن باعوم وناصر النوبة وعلي السعدي وغيرهم من القادة الجنوبيين، كما بكوا العميد عمر بارشيد وكل القادة الجنوبيين الذين سقطوا لأن كل شهيد يسقط هو خسارة فادحة على الشعب الجنوبي.

فهل ياترى ستختصر هذه القيادات طريق الانتصار لشعبنا الجنوبي في تحقيق آماله في الحرية والحياة الكريمة قبل أن تتضاعف الكلفة ويرتفع الثمن من أرواح ودماء كل الجنوبيين.

د. فارس سالم الشقاع
الإمارات العربية المتحدة
20 أغسطس 2012

آخر تحديث الأربعاء, 29 أغسطس 2012 11:15